فصل: أفي القرآن سجع؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.أفي القرآن سجع؟

125 - الأمر الذي لا مراء فيه أن القرآن الكريم فيه فواصل قد تتحد فيها حروف المقاطع أحيانًا، وقد تلونا فيما مضى من القول آيات بينات فيها من المقاطع متحدة الحروف، فهل تعد هذه سجعًا؟ اختلفت في ذلك عبارات كتاب البلاغة في القديم.
ونجد الرماني يحكم بأن القرآن فيه فواصل ليست من السجع، وبذلك يعلو القرآن في نظره عن أن يكون سجعًا، ويقاربه في ذلك الرأي أو يوافقه الباقلاني في كتابه (دلائل الإعجاز)، وسنعود إلى الاستدلال لذلك الرأي إن شاء الله تعالى.
ولكن الآن نتكلّم في وجهة نظر الذين أثبتوا أن القرآن فيه سجع وإن كان أعلى مما يستطيعه الناس أو يزاولون.
ومن هؤلاء أبو هلال العسكري في كتابه (الصناعتين) فهو يقول:
وجميع ما في القرآن مما يجري على القرآن من التسجيع والازدواج مخالف في تمكين المعنى وصفاء اللفظ، وتضمّن التلاوة، لما يجري مجراه من كلام الخلق، ألا ترى قوله عز اسمه: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات: 1 - 5].
قد بان عن جميع أقسامهم الجارية هذا المجرى من مثل قول الكاهن: (والسماء والأرض، والقرض والفرض، والغمر والبرض)، ومثل هذا من السجع مذموم، لما فيه من التتكلف والتعسف، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله: أندى من لا شرب ولا أكل، ولا صاح فاستهل، فمثل ذلك يطل: «أسجعًا كسجع الكهان». لأنَّ التكلف في سجعهم فاش، ولو كرهه عليه الصلاة والسلام لكونه سجعًا لقال: أسجعًا ثم سكت، وكيف يذمّه ويكرهه، وإذا سلم من التكلف، ويرئ من التعسف لم يكن في جميع صنوف الكلام أحسن منه، وقد جرى عليه من كلامه عليه السلام.
ونرى من هذا أن أبا هلال العسكري يخالف الرماني في أنَّ السجع كله مذموم، بل منه المذموم الذي يظهر فيه التكلف، ويرهق الألفاظ والمعاني، حتى يحاول القائل أن يكون كلامه رضًا غير متماسك بملاط من المعاني.
ويرى أنّه لا مانع من أن يوصف القرآن بأن فيه سجعًا، ولكنه سجع في أعلى مراتب الكلام، بحيث لا يمكن أن يجاريه أحد، ولا يصل إلى علوه أحد من الخلق.
وابن سنان في كتابه (سر البلاغة) يسمِّي ما فيه المقاطع متحدة سجعًا، ولكن في درجة العلوِّ القرآني الذي لا يستطيع أحد أن ينهد في كلامه إليه.
ويسوق نصوصًا قرآنية بعدها من السجع منه ما تلونا، ومنه قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ، هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ، وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} [الفجر: 1 - 12].
ويقول ابن سنان: إنَّ نغم السجع كان مقصودًا، فقد حذفت الياء في يسر، وحذفت الواو، وذلك صحيح في اللغة، ويقول: قصد إليه طلبًا للموافقة في الفواصل.
ويستدل أيضًا بقوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 1، 2].
ويتكلم ابن سنان في البواعث التي بعثت الذين ينكرون أنَّ يكون في القرآن سجع، فيحمد تلك البواعث مع الإصرار على المخالفة فيقول: وأظنّ أن الذي دعا أصحابنا إلى تسمية كل ما في القرآن فواصل، ولم يسموا ما تماثلت حروفه سجعًا، رغبة في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروي عن الكهنة وغيرهم، وهذا غرض في التسمية قريب، فأمَّا الحقيقة فما ذكرناه؛ لأنه لا فرق بين مشاركة بعض القرآن لغيره في كونه مسجوعًا، وبين مشاركة جميعه في كونه عرضًا وصوتًا وكلامًا عربيًّا مؤلفًا، وهذا مما لا يخفى فيحتاج إلى زيادة في البيان، ولا فرق بين الفواصل التي تتماثل حروفها في المقاطع وبين السجع.
ويقول فارضًا اعتراضًا، ورادًا عليه، فإذا قال قائل: إذا كان عندكم أن السجع محمود، فهلَّا ورد القرآن كله مسجوعًا، وما الوجه في ورود بعضه غير مسجوع؟ قيل: إن القرآن أنزل بلغة العرب وعلى عرفهم وعادتهم، وكان الفصيح من كلامهم لا يكون كله مسجوعًا لما في ذلك من أمارات التكلف والاستكراه والتصنع، ولا سيما فيما يطول من الكلام، فلم يرد مسجوعًا جريًا على عرفهم في الطبقة العالية من الكلام، ولم يخل من السجع؛ لأنه يحسن في بعض الكلام على الصفة التي قدمناها، وعليها ورد في فصيح كلامهم، فلم يجز أن يكون عاليًا في الفصاحة، وقد أخلَّ فيه شرط من شروطها، وهذا هو السبب، فأورد القرآن مسجوعًا وغير مسجوع.
ونحن لا نفرض احتمال التكلف في القرآن قط؛ لأنه من عند الله تعالى، ولكن نقول: هكذا أراد الله سبحانه وتعالى - أن يكون هكذا كتابه، وإذا أردنا أن نلتمس حكمة لذلك، فهي فيما قال سبحانه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الكهف: 54] فتصريف القول في القرآن كان من جماله الذي يعلو على كل البشر بأن يكون تصريف القول فيه بسجع أحيانًا إن ارتضينا مذهب السجع، أو الفواصل المتقاربة حروفها في المقاطع أحيانًا أو إطلاق الألفاظ في القرآن من غير مقاطع، مع ملاحظة أنَّ ذلك كله في أعلى درجات البلاغة التي لا يصل إليها أحد من البشر.
وابن الأثير في كتابه المثل السائر يستنكر قول الذين يذمون السجع، ويستنكر قول الذين لا يسمون ما في القرآن من اتحاد المقاطع في الحروف سجعًا، ويقول في ذلك:
وقد ذمَّه بعض أصحابنا من أرباب هذه الصناعة، ولا أرى لذلك وجهًا سوى عجزهم أن يأتوا به، وإلَّا فلو كان مذمومًا لما ورد في القرآن الكريم، فإنه قد أتى منه.
بالكثير، حتى إنه ليؤتي بالسورة جميعها مسجوعة كسورة الرحمن، وسورة القمر وغيرهما، وبالجملة فلم يخل منه سورة.
وترى أنه يستحسن السجع، ويرمي الذين لا يستحسنونه بأنهم لا يجيدونه، ونقول: إنه لا يمكن أن يكون حسنًا في كل الأحوال، فمثلًا بيان الأحكام الشرعية في أي كلام بليغ لا يصح أن يكون سجعًا، ولكل مقام مقال كما يذكر علماء البلاغة.
وخلاصة ما يقرره المثبتون للسجع في القرآن أنهم يعتمدون على ما يتلونه من اتحاد الحروف في مقاطع القرآن، ويقررون مع ذلك أن سجع القرآن أعلى من كلام البشر، فليس على شاكلة مثله في كلام الناس؛ لأنه أعلى من كلام الناس.
126 - من هذه النقول التي نقلناها نجد الذين يقررون أن في القرآن سجعًا يعتمدون:
أولًا: على نصوص القرآن التي ثبت فيها أنّ الفواصل المتحدة في الحروف كثيرة في القرآن.
وثانيًا: على أن السجع ليس عيبًا في القول، ولكنه من محسِّنات القول، وقد وقع كثيرًا في كلام العرب الجيد، وأنه لم يكن سجع الكهان هو السائد فقط، بل كان من بلغاء العرب من اتجه إلى السجع البليغ، فقد روي عن أبي طالب عمّ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لسيف بن ذي يزن:
(أنبتك الله منبتًا طابت أرومته، وعزت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فرعه، ونبت زرعه في أكرم موطن، وأطيب معدن).
وإن الذين نفوا السجع من القرآن قالوا: إنه مذموم، وعلى رأسهم الرماني، وجاء من بعده أبو بكر الباقلاني، فنهج ذلك المنهج وسار على ذلك الخط، ونسبه إلى الأشاعرة، فقال:
ذهب أصحابنا كلهم إلى نفي السجع في القرآن، وذكره الشيخ أبو الحسن الأشعري في غير موضع من كتبه.
وإذا كان الذين ردوا على الرماني قد بيَّنوا أنَّ السجع ليس مذمومًا على إطلاقه، إنما المذموم منه سجع الكهان، وما كان فيه اللفظ هو المقصود، والمعنى تابع له.
وقد أنكر الباقلاني أن يكون في القرآن سجع، وما ادّعوه من سجع فيه وساقوه هو وَهْمٌ لا أساس له فقال:
والذين يقدرون أنه سجع هو وهم؛ لأنه قد يكون الكلام على مثال السجع، وإن لم يكن سجعًا؛ لأنَّ ما يكون به الكلام سجعًا يختص ببعض الوجوه دون بعض، لأنَّ السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع، وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن؛ لأن اللفظ لا يقع فيه تابعًا للمعنى، وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون السجع منتظمًا دون اللفظ، ومتى ارتبط المعنى بالسجع كانت إفادة السجع كإفاد غيره، ومتى انتظم المعنى نفسه دون السجع كان مستجلبًا لتحسين الكلام دون ضجيج.
وإننا هنا نجد افتراقًا بين الباقلاني وابن الأثير وابن سنان وأبي هلال العسكري في تعريف السجع، فأولئك يعتبرون السجع ما اتحدت فيه ألفاظ المقاطع، سواء أكان المعنى هو المقصود، وجاء الاتحاد تحسينًا للقول، أم كان المقصد هو اللفظ واتحاد ألفاظ المقاطع هو المقصود، وفي الأول يكون السجع محمودًا، وفي الثاني لا يكون لائقًا بمقام القرآن الكريم.
أما الباقلاني وسائر الأشاعرة، ومن سلك طريقتهم، فإنهم لا يذكرون السجع إلإ في الصورة التي يكون فيها اللفظ مقدمًا على المعنى.
وإن الذي دفع الباقلاني إلى هذا هو تشبيه السجع بالشعر، فالشعر تقصد فيه القوافي والمقاطع المتحدة في الألفاظ ثم تكيف المعاني على الألفاظ ليستقيم المقطع، كما تستقيم القافية، وإذا كان الشعر منفيًّا في القرآن بالاتفاق، فكذلك السجع الذي ينهج منهجه، ويتبع طريقته، وتجيء المعاني تابعة للألفاظ مكيفة بكيفها، مأخوذة بطريقها، وإنَّ الله تعالى عندما استنكر أن يكون قول شاعر ولا كاهن، أدخل السجع في النفي، وهو السجع الذي يكون فيه المقصد الأول للفظ.
وإنه إذا كانت الفكرة نفيًا أو إثباتًا قائمة على الاختلاف في الاصطلاح فإنه قد زال الخلاف؛ إذ لا مشاحة في الاصطلاح.
وبذلك ننتهي إلى الاتفاق على أنَّ القرآن فيه فواصل تتحد فيها المقاطع ولعلوها وسموها في البلاغة كانت المعاني هي المقصد الأول، وجاءت الألفاظ بجمالها وإشراقها وحسن نغمها، ورنة موسيقاها، تابعة لذلك، وقد يكون اتحاد المقاطع في الحروف من مظاهر الجمال وحسن النغم، وانسجام الموسيقي، وفي ذلك قوة التأثير، بما لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله.
وعلى ذلك نقول: إنَّ من يفسِّر السجع بأن الاتحاد في حروف المقاطع من غير أن يكون المعنى تابعًا للفظ يحكم بأن القرآن الكريم فيه سجع فوق قدرة البشر أن يأتوا بمثله، ومن يقول: إنّ السجع كالشعر يكون المعنى فيه تابعًا للقافية والأوزان يكون القرآن الكريم منزَّهًا عنه.
ونحن نميل إلى أن اتحاد المقاطع في القرآن لا يعد سجعًا؛ لأننا نرى السجاعين يتجهون إلى الألفاظ أولًا، وقد يكون سهلًا وحلوًا، ولكن الاتجاه فيه أولًا إلى الألفاظ، وذلك غير لائق بالنسبة للقرآن.
127 - وبذلك يكون الحكم في أمرٍ اتفق الطرفان المتخاصمان فيه على تقديس القرآن الكريم، وتنزيهه عن أن يكون مشابهًا لكلام الناس، وإن كان من جنسه، ومكونًا من حروفه.
ونختم الكلام بكلام لكاتبين مؤمنين، قال أحدهما في وصف ألفاظ القرآن ونظمه، وقال الثاني في فواصله ومقاطعه، أما الأول فالباقلاني، فقد قال:
إن القرآن سهل سبيله، فهو خارج عن الوحشي المستكره، والغريب المستنكر، وعن الصنعة المتكلفة، وجعله قريبًا إلى الأفهام، يبادر معناه لفظه إلى القلب، ويساوق المغزى منه عبارته إلى النفس، وهو مع ذلك ممتنع المطلب عسير المتناول غير مطمع مع قربيه في نفسه، ولا موهم مع دونوه في موضعه أن يقدر عليه، أو أن يظفر به، فأمَّا الانحطاط عن هذه الرتبة إلى رتبة الكلام المبتذل، والقول المسفسف فلا يصح أن تقع فيه فصاحة أو بلاغة، فيطلب فيه، ولكنه أوضح مناره، وقرب منهاجه، وسهل سبيله، وجعله في ذلك متشابهًا متماثلًا، وبين مع ذلك إعجازه فيهم.
أما الثاني فهو الكاتب المؤمن مصطفى صادق الرافعي رحمه الله ورضي عنه فهو يقول في فواصل القرآن ومقاطعه:
ما هذه الفواصل التي تنتهي إليها آيات القرآن؟ ما هي إلَّا صورة تامة للأبعاد التي تنتهي بها جمل الموسيقى، وهي متفقة مع آياتها في قرار الصوت اتفاقًا عجيبًا، يلائم الصوت والوجه الذي يساق إليه بما ليس وراءه في العجب مذهب، وتراها أكثر ما تنتهي بالنون والميم، وهما الحرفان الطبيعيان في الموسيقى نفسها، أو بالمد، وهو كذلك طبيعي في القرآن. قال بعض العلماء: كثير في القرآن ختم الفواصل بحروف المد واللين، والياء والنون، وحكمة وجودها التمكين من التطريق بذلك، كما قال سيبويه: أنهم - أي: العرب - إذا ترنَّموا يلحقون الألف والياء والنون لأنهم أرادوا مدَّ الصوت، ويتركون ذلك إذا لم يترنموا، وجاء ذلك في القرآن على أسهل موقف وأعذب مقطع.
فإذا لم تنته بواحدة من هذه (بالميم والنون والمد) كأن انتهت بسكون حرف من الحروف الأخرى كان ذلك متابعة لصوت الجملة، وتقطيع كلماتها، ومناسبته للون المنطق بما هو أشبه وأليق بموضعه، وعلى أن ذلك لا يكون أكثر ما أنت واجده إلا في الجمل القصار، ولا يكون إلَّا بحرف قوي يستتبع القلقلة أو الصفير أو نحوهما مما هو صروف أخرى من النظم الموسيقي.
وهذه هي طريقة الاستهواء الصوتي في اللغة، وأثرها طبيعي في كل نفس تفهمه، وكل نفس لا تفهمه، ثم لا يجد من النصوص على أي حال إلا الإقرار والاستجابة، ولو نزل القرآن بغيرها لكان ضربًا من الكلام البليغ الذي يطمع فيه أو في أكثره، ولما وجد أثر يتعدى أهل هذه اللغة العربية إلى أهل اللغات الأخرى، ولكنه انفرد بهذا الوجه المعجز، فتألفت كلماته من حروف لو سقط واحد منها أو أبدل بغيره، أو أقحم معه حرف آخر، لكان ذلك خللًا بيِّنًا، أو ضعفًا ظاهرًا في نسق الوزن، وجرس النغمة، وفي حس السمع وذوق اللسان، وفي انسجام العبارة، وبراعة المخرج، وتساند الحروف، وإفضاء بعضها إلى بعض، ولرأيت لذلك هجنة في السمع كالذي تنكره من كل مرئي لم تقع أجزاؤه على ترتيبها، ولم تتفق على طبقاتها، وخرج بعضها طولًا وبعضها عرضًا، وذهب ما بقي منها إلى جهات متناكرة.
وإن هذا الكلام يفيد فائدتين:
إحداهما: أنَّ موسيقى القرآن الكريم ونغماته هي التي استرعت أسماع العرب، واستهوت نفوسهم، ورأوا لها حلاوة، وعليها طلاوة ليست من الشعر، وإن علت على أعلى ما فيه، وليست من نوع كلامهم البليغ، وإن كانت من جنس كلامهم، وإن ذلك التأليف في النغم والجرس مع علوِّ المغزى والمعنى وإحكام التعبير ودقة الإحكام لا يمكن أن يصل إليه أحد.
وقد يقول قائل: هل هذه الأنغام المؤتلفة مقصودة في ذاتها، وهي الإعجاز؟
فنقول: إننا مهما نحاول في رد الإعجاز إلى أسباب لا نجد سببًا واحدًا بذاته هو الذي اختص بالإعجاز، بل تضافرت في ذلك الأسباب، وكل واحد منها يصلح سببًا قائمًا بذاته، ولكن نؤكد أن جرس المقاطع والحروف والكلمات والجمل، والفوزاصل، وأبعادها، كل هذا فيه إعجاز للعرب عن أن يأتوا بمثلها.
وإنَّ الدليل على أنَّ جرس الآيات القرآنية بما حوت من حروف وكلمات هو من الإعجاز أنَّ الله تعالى أمر بترتيل القرآن لا بمجرد القراءة، فقد قال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا}، وبين سبحانه أن ترتيل القرآن بتعليم من الله تعالى، فقد قال تعالت كلماته: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32].
فالله تعالى علَّم نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم علَّم أمته ذلك الترتيل، وليس الترتيل مجرَّد القراءة، إنما الترتيل قراءة منغمة تنغيمًا يظهر التناسق في الحروف والجمل والآيات ويكشف معانيها، ونغماتها، وتلك هي موسيقى القرآن.
الفائدة الثانية التي يفيدها: أنَّ إعجاز القرآن لغير العرب هو بنغمه وجرسه الموسيقي، فإنَّ الموسيقى لغة الإنسانية، وتهتز لها كل القلوب، ونحن نوافقه في اتجاهه إلى أن القرآن معجز العرب وغيرهم، ولكن لا نقصر إعجاز غير العرب على الموسيقى وحدها، بل نقول: إن ذات العبارات، وشرائعه، والعلم المبثوث فيه، وكونه من أمي لا يقرأ ولا يكتب، وقد نشأ في بلد أمي ليس فيه معهد ولا مدرسة، هذا كله فيه الدلالة على أنه من عند الله تعالى.